فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ}
{وَأُوحِىَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ} إقناط له عليه السلام من إيمانهم وإعلام بأنه لم يبق فيهم من يتوقع إيمانه.
أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس قال: إن نوحًا عليه السلام كان يضرب ثم يلف في لبد فيلقى في بيته يرون أنه قد مات ثم يخرج فيدعوهم، واتفق أن جاءه رجل ومعه ابنه وهو يتوكأ على عصا فقال: يا بني انظر هذا الشيخ لا يغرنك قال: يا أبت أمكني من العصا فأخذ العصا ثم قال: ضعني على الأرض فوضعه فمشى إليه فضربه فشجه موضحة في رأسه وسالت الدماء فقال نوح عليه السلام: رب قد ترى ما يفعل بي عبادك فإن يك لك في عبادك حاجة فاهدهم وإن يكن غير ذلك فصبرني إلى أن تحكم وأنت خير الحاكمين فأوحى الله تعالى إليه وآيسه من إيمان قومه وأخبره أنه لم يبق في أصلاب الرجال ولا في أرحام النساء مؤمن.
وقال سبحانه: {إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ} إلخ، والمراد بمن آمن قيل: من استمر على الإيمان وللدوام حكم الحدوث، ولذا لو حلف لا يلبس هذا الثوب وهو لابسه فلم ينزعه في الحال حنث، وقيل: المراد إلا من قد استعد للإيمان وتوقع منه ولا يراد ظاهره وإلا كان المعنى إلا من آمن فإنه يؤمن، وأورد عليه أنه مع بعده يقتضي أن من القوم من آمن بعد ذلك، وهو ينافي تقنيطه من إيمانهم، وقد يقال: المراد ما هو الظاهر والاستثناء على حد الاستثناء في قوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاختين إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] على ما قاله غير واحد، فيفيد الكلام الإقناط على أتم وجه وأبلغه أي لن يحدث من قومك إيمانًا ويحصله بعد إلا من قد أحدثه وحصله قبل، وذلك مما لا يمكن لما فيه من تحصيل الحاصل وإحداث المحدث، فإحداث الإيمان وتحصيل بعد مما لا يكون أصلًا، وفي الحواشي الشهابة لو قيل: إن الاستثناء منقطع وأن المعنى لا يؤمن أحد بعد ذلك غير هؤلاء لكان معنى بليغًا فتدبر، وقرأ أبو البرهسم: {وَأُوحِىَ} مبنيًا للفاعل وأنه بكسر الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين وعلى إجراء: {أوحى} مجرى قال على مذهب الكوفيين، واستدل بالآية من أجاز التكليف بما لا يطاق.
{فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} أي لا تلتزم البؤس ولا تحزن بما كانوا يتعاطونه من التكذيب والاستهزاء والإيذاء في هذه المدة الطويلة فقد حان وقت الانتقام منهم.
{واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا} عطف على: {فَلاَ تَبْتَئِسْ} [هود: 36] والأمر قيل: للوجوب إذ لا سبيل إلى صيانة الروح من الغرق إلا به فيجب كوجوبها، وقيل: للإباحة وليس بشيء، وأل في: {الفلك} إنا للجنس أو للعهد بناءًا على أنه أوحى إليه عليه السلام من قبل أن الله سبحانه سيهلكهم بالغرق وينجيه ومن معه بشيء يصنعه بأمره تعالى من شأنه كيت وكيت واسمه كذا، والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل، والأعين حقيقة في الجارحة وهي جارية مجرى التمثيل كأن لله سبحانه أعينًا تكلؤه من تعدى الكفرة ومن الزيغ في الصنعة، والجمع للمبالغة، وقد انسلخ عنه لإضافته على ما قيل.
معنى القلة وأريد به الكثرة، وحينئذ يقوي أمر المبالغة، وزعم بعضهم أن الأعين بمعنى الرقباء وأن في ذلك ما هو من أبلغ أنواع التجريد، وذلك أنهم ينتزعون من نفس الشيء آخر مثله في صفته مبالغة بكمالها كما أنشد أبو علي:
أفات بنو مروان ظلمًا دماءنا ** وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل

وقد جرد هاهنا من ذات المهيمن جماعة الرقباء وهو سبحانه الرقيب نفسه، وقيل: إن ملابسة العين كناية عن الحفظ وملابسة الأعين لمكان الجمع كناية عن كمال الحفظ والبمالغة فيه، ونظير ذلك بسط اليد وبسط اليدين، فإن الأول كناية عن الجود والثاني عن المبالغة فيه، وجوز أن يكون المراد الحفظ الكامل على طريقة المجاز المرسل لما أن الحفظ من لوازم الجارحة، وقيل: المراد من أعيننا ملائكتنا الذين جعلناهم عيونًا على مواضع حفظك ومعونتك، والجمع حينئذ على حقيقته لا للمبالغة، ويفهم من صنيع بعضهم أن هذا من المتشابه، والكلام فيه شهير، ففي الدر المنثور عند الكلام على هذه الآية.
أخرج البيهقي عن سفيان بن عيينة قال: ما وصف الله تبارك وتعالى به نفسه في كتابه فقراءته تفسيره ليس لأحد أن يفسره بالعربية ولا بالفارسية، وقرأ أبو طلحة بن مصرف بأعينا بالادغام: {وَوَحْيِنَا} إليك كيف تصنعها وتعليمنا.
أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه السلام لم يعلم كيف صنعة الفلك فأوحى الله تعالى إليه أن اجعل رأسها كرأس الديك. وجؤجؤها كجؤجؤ الطير.
وذنبها كذنب الديك، واجعل لها أبوابًا في جنبها وشدها بدسر وأمره أن يطليها بالقار ولم يكن في الأرض قار ففجر الله تعالى له عين القار حيث ينحتها يغلي غليانًا حتى طلاها الخبر، وفيه أن الله تعالى بعث جبريل عليه السلام فعلمه صنعتها، وقيل: كانت الملائكة عليهم السلام تعلمه.
{وَلاَ تخاطبنى في الذين ظَلَمُواْ} أي لا تراجعني فيهم ولا تدعني باستدفاع العذاب عنهم وفيه من المبالغة ما ليس فيما لو قيل: ولا تدعني فيهم، وحيث كان فيه ما يلوح بما يستتبعه أكد التعليل فقيل: {إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} أي محكوم عليهم بالاغراق؛ وقد جرى به القضاء وجف القلم فلا سبيل إلى كفه، والظاهر أن المراد من الموصول من لم يؤمن من قومه مطلقًا، قيل: المراد واعلة زوجته وكنعان ابنه وليس بشيء. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ} عطف على جملة: {قالوا يا نوح قد جادلتنا} [هود: 32] أي بعد ذلك أوحي إلى نوح عليه السّلام: {أنّه لن يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن}.
واسم أن ضمير الشأن دال على أن الجملة بعده أمرهم خطير لأنها تأييس له من إيمان بقية قومه كما دل حرف: {لن} المفيد تأبيد النفي في المستقبل، وذلك شديد عليه ولذلك عقب بتسليته بجملة: {فلا تبتئس بما كانوا يفعلون} فالفاء لتفريع التسلية على الخبر المحزن.
والابتئاس افتعال من البؤس وهو الهم والحزن، أي لا تحزن.
ومعنى الافتعال هنا التأثر بالبؤس الذي أحدثه الخبر المذكور.
{بما كانوا يفعلون} هو إصرارهم على الكفر واعتراضهم عن النظر في الدعوة إلى وقت أن أوحي إليه هذا.
قال الله تعالى حكاية عنه: {فلم يزدهم دعائي إلاّ فِرارًا وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارًا} [نوح: 6، 7].
وتأكيد الفعل بـ: {قَد} في قوله: {من قَد آمن} للتنصيص على أن المراد من حصل منهم الإيمان يقينًا دون الذين ترددوا.
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}
لما كان نهيه عن الابتئاس بفعلهم مع شدة جرمهم مؤذنًا بأن الله ينتصر له، أعقبه بالأمر بصنع الفلك لتهيئة نجاته ونجاة من قد آمن به من العذاب الذي قدره الله لقومه، كما حكى الله عنه: {فدعا ربّه أني مغلوبٌ فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماءٍ منهمرٍ} [القمر: 10، 11] الآية، فجملة: {واصنع الفلك} عطف على جملة: {فلا تبتئس} [هود: 36] وهي بذلك داخلة في الموحى به فتدل على أن الله أوحى إليه كيفية صنع الفلك كما دل عليه قوله: {ووَحينا}، ولذلك فنوح عليه السّلام أول من صنع الفلك ولم يكن ذلك معروفًا للبشر، وكان ذلك منذ قرون لا يحصيها إلاّ الله تعالى، ولا يعتد بما يوجد في الإسرائيليات من إحصاء قرونها.
والفلك اسم يستوي فيه المفرد والجمع.
وقد تقدم عند قوله تعالى: {والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} في سورة البقرة (164).
والباء في {بأعيننا} للملابسة وهي في موضع الحال من ضمير اصنع. والأعين استعارة للمراقبة والملاحظة.
وصيغة الجمع في: {أعيننا} بمعنى المثنى، أي بعينينا، كما في قوله: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} [الطور: 48]. والمراد الكناية بالمعنى المجازي عن لازمه وهو الحفظ من الخلل والخَطأ في الصنع. والمراد بالوحي هنا الوحي الذي به وصف كيفية صنع الفلك كما دل عليه عطفه على المجرور بباء الملابسة المتعلقة بالأمر بالصنع.
ودل النهي في قوله: {ولا تخاطبني في الذين ظلموا}، على أن كفار قومه سينزل بهم عقاب عظيم لأن المراد بالمخاطبة المنهي عنها المخاطبة التي ترفع عقابهم فتكون لنفعهم كالشفاعة، وطلب تخفيف العقاب لا مطلق المخاطبة.
ولعل هذا توطئة لنهيه عن مخاطبته في شأن ابنه الكافر قبل أن يخطر ببال نوح عليه السلام سؤال نجاته حتى يكون الرد عليه حين السؤال ألَطَف.
وجملة: {إنهم مغرقون} إخبار بما سيقع وبيان لسبب الأمر بصنع الفلك.
وتأكيد الخبر بحرف التوكيد في هذه الآية مثال لتخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر بتنزيل غير السائل المتردد منزلة السائل إذا قدم إليه من الكلام ما يلوّح إلى جنس الخبر فيستشرفه لتعيينه استشرافًا يشبه استشراف السائل عن عين الخبر. اهـ.

.قال الشعراوي:

وبعد ألف عام إلا خمسين من جدال نوح عليه السلام لقومه، قال له الحق سبحانه وتعالى: {وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ}
ومجيء {إلا} هنا ليس للاستثناء، ولكنها اسم بمعنى {غير} أي: لن يؤمن من قومك غير الذي آمن.
ولهذا نظير في قمة العقائد حين قال الحق سبحانه: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
و{إلا} هنا أيضًا بمعنى {غير}، ولو كانت {إلا} بمعنى الاستثناء لعنى ذلك أن الله سبحانه معاذ الله سيكون ضمن آلهة آخرين، لذلك لا يصلح هنا أن تكون {إلا} للاستثناء، بل هي بمعنى {غير}، وتفيد معنى الوحدانية لله عَزَّ وجَلَّ وتَفرُّده بالألوهية.
والآية التي نتناولها بخواطرنا تؤكد أنه لا يوجد غير من آمن بنوح عليه السلام من قومه، سوف يؤمن؛ فقد ختم الله المسألة.
وهذا يعطينا تبريرًا لاجتراء نوح عليه السلام على الدعاء على الذين لم يؤمنوا من قومه بقوله: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح: 26- 27].
وكان تبرير ذلك أنه عليه السلام قد دعاهم إلى الإيمان زمانًا طويلًا فلم يستجيبوا، وأوحى له الله تعالى أنهم لن يؤمنوا، وقال له سبحانه: {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [هود: 36].
والابتئاس هو الحزن المحبط، وهم قد كفروا وليس بعد الكفر ذنب.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا}
وهكذا علم نوح بمسألة الإغراق من خلال الوحي له بصنع السفينة. ومعنى أصنع أي: اعمل الصنعة، وهناك فرق بين الصنعة والحرفة، فالصنعة أنْ تُوجِدَ معدومًا، كصانع الأكواب، أو صانع الأحذية، أو صانع النَّجَفَ، أو صانع الكراسي، أما الذي يقوم على صيانة الصنعة فهو الحرفيُّ.
وهناك عملية أخرى للاستنباطات مثل مهنة الزارع الذي يحرث الأرض ويبذر فيها الحَبَّ ويرويها ليستنبط منها النباتات، ويسمَّى صاحب هذه المهنة زارع أو فلاَّح؛ لأن اقتيات الحياة المباشر يأتي من الزراعة.
أما الصانع فيأتي بشيء من متطلبات الحياة، في تطورها ويوجد آلةً أو يصنع جهازًا لم يكن موجودًا، والحرفيُّ هو الذي يصون تلك الآلة، أما التاجر فهو الذي يقوم بعمليةٍ تجمع كل ذلك، ويكون هو الوسيلة بين منتج الشيء والمستهلك، فالتاجر يكون لعرض الأشياء بغية البيع والشراء.
والحق سبحانه وتعالى يقول هنا لنوح عليه السلام: {واصنع الفلك} [هود: 37].
أي: أوجد شيئًا من عدم، إلا أن هذا الشيء سيصنع من شيء آخر موجود، لأن نوحًا عليه السلام قد زرع من قبل شجرة وعاشت معه كل هذه المدة الطويلة، وتضخَّمت في الجذع والفروع.
وبدأ نوح عليه السلام في عملية شقِّ الشجرة ليصنع منها السفينة التي بلغ طولها كما قيل ثلاثمائة ذراع وبلغ عرضها خمسين ذراعًا، وبلغ ارتفاعها ثلاثين ذراعًا ومكوَّنة من ثلاثة أدوار لتسع المؤمنين، وزوجين من كل نوع من حيوانات الأرض ودوابِّها وهوامها وسباعها ووحوشها.
ونحن قد علمنا أن الشجرة التي زرعها نوح عليه السلام قد تضخَّمت جدًا لطول المدَّة التي قضاها نوح في دعوته لقومه؛ ونعلم أيضًا أن جذع الشجرة ينمو دائريًا بمقدار دائرة كل عام. وحين نقطع جذع الشجرة نجد أن قطر الجذع مكوَّن من دوائر، وكل دائرة تمثِّل عامًا من عمرها.
وهكذا بلغ حجم الشجرة ما يساعد نوحًا عليه السلام على أن يصنع السفينة.
وقد علَّمه الحق سبحانه بالوحي وإلهام الخواطر كيف يصنع السفينة، ألمْ يُلهِم الله سبحانه نبيِّه داود عليه السلام في مسألة الحديد؟ وقال لنا سبحانه أنه جلَّ وعَلا قد أمر الجبال أو تُؤَوِّب معه، وكذلك الطير، فألان له الحديد دون نار: {يا جبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير وَأَلَنَّا لَهُ الحديد أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ} [سبأ: 10- 11].
هكذا أخبرنا الحق سبحانه أن الحديد صار ليِّنًا دون نار بإذنه سبحانه ليصنع منه داود دروعًا كبير مستوفية للظهور والصدر، لتحمي معاطب الإنسان.
وقد أوحى الحق سبحانه لداود عليه السلام أن يصنع تلك الدروع بطريقة عجيبة، بأن يجعلها سابغات.
والسابغة هي المسرودة، مثل الحصير، حيث يُوضع العُود بجانب العود، ويربط الأعواد كلها بطريقة تسهل من فَرْد الحصير أو لَفِّه.
وفي نفس الآية يبيِّن لنا الحق سبحانه كيفية الوحي لداود عليه السلام بتلك الصناعة الدقيقة، فيقول سبحانه: {وَقَدِّرْ فِي السرد} [سبأ: 11].
أي: أنك يا داود حين تنسج الحديد الليِّن بإذن الله تعالى لتجعله دروعًا عليك أن تصنع تلك الدروع بتقدير دقيق كي لا تكون الدِّرع ضيِّقة على صدر المقاتل فتضيق حركته، وتقلِّل من قدرته على التنفس، فيلهث بسرعة، ولا يستطيع مواصلة القتال.
وكذلك يجب ألاَّ تكون الدِّرع واسعة على صدر المقاتل؛ حتى لا تساعد سعة الدِّرع سيف الخصم، فيضرب الدِّرع نفسه صدر المقاتل، وتكون قوة الدِّرع مضافة إلى قوة سيف الخصم، ولكن حين تكون الدِّرع قادرة على الإحاطة بالجسم دون أن يُكبِّل الحركة، فهذه الدِّرع المناسبة للقتال.
وقد أتقن داود عليه السلام صناعة تلك الدُّروع بتلك الهندسة الدقيقة التي أوحى الحق سبحانه بها إليه، فقد صنعها بأمر الحق الأعلى سبحانه حين قال له: {وَقَدِّرْ} [سبأ: 11] وكلمة قدر تعطي معنى التقدير والإتقان.